يكثر استخدام مصطلح «الأيديولوجيا» لوصف حالة ذهنية معيَّنة تستند إلى مجموعة من التصورات والأفكار. ويخلط كثيرون بين معنى الأيديولوجيا ومفاهيم أخرى مثل الفكر والفلسفة والنظرية. وكان أول مَن استخدم كلمة «أيديولوجيا» هو الفيلسوف الفرنسي ديستوت دو تراسي في عام 1796، الذي عرَّف الأيديولوجيا بأنها علم الأفكار. وبرغم هذا الوصف العلمي لدراسة الأفكار، فإن للأيديولوجيا استخدامًا سلبيًّا في أنظمة الفكر بالواقعَين السياسي والاجتماعي، إذ انتشر المعنى السلبي لمصطلح «الأيديولوجيا» بين الباحثين والمفكرين في محاولتهم توصيف سلوك الحركات السياسية المتطرفة، وسياسات بعض الأنظمة السياسية ذات الطابع الاستبدادي، وهذا الاستخدام للأيديولوجيات لا يتمثل على أرض الواقع من دون ممارسة «التخدير الأيديولوجي»، المكوِّن الأساسي للغيبوبة الأيديولوجية.
والتخدير الأيديولوجي هو عملية ينفّذها المؤدلَج أو النخبة الأيديولوجية تجاه أتباعهما خاصًّة، والجماهير عامَّة، عن طريق بث تصوُّرات أيديولوجية ضيِّقة ومحدَّدة تحلُّ محلَّ القدرة الطبيعية على التفكير عند الأفراد. وعبر إحلال المكوِّن الأيديولوجي محلَّ الفكر تتوقَّف عملية التفكير والنقد لدى الفرد المُخَدَّر أيديولوجياً، فلا يستطيع تخطي الحواجز الأيديولوجية التي ضيَّقت أفق التفكير لديه، وأحكمت الإغلاق على نواحي العقل الأخرى، ومن ثَمَّ يدخل حيزاً أشبه بالغيبوبة الأيديولوجية بصفتها حالةَ انقطاع ذهني عن المنطق السليم والتفكير الواعي، وانجرافاً لا مفر منه نحو غياهب اللاوعي والتبعية العمياء، نتيجة الخدَر الأيديولوجي الذي يسيطر على الفرد أو المجتمع.
ولا تكمن خطورة التخدير الأيديولوجي في تشكيل الغيبوبة الأيديولوجية فحسب، إذ إن له جوانب خطِرة أخرى أيضاً، أولها أنه يدعم مصالح النخبة المؤدلَجة وأهدافها عن طريق تعبئة الأفراد والأتباع لتشكيل تكاتف أيديولوجي يُعزِّز قيمة المعتقدات الأيديولوجية الجمعية. والثاني هو أن التخدير الأيديولوجي يعمل على تعطيل العقل العام للأفراد والمجتمع، فتثبِّط هذه الأفكار الأيديولوجيَّة عملية التفكير والمراجعة الذاتية، ومن ثَمَّ تصبح المعتقدات الأيديولوجية متماهية مع الحقيقة المطلقة، التي لا يمكن للأفراد نكرانها أو حتى نقدها. والجانب الثالث هو أن عملية التخدير الأيديولوجي تستند إلى خلق عقلانية مزيَّفة تحل محل العقلانية العامَّة، فتغيب فكرة المصلحة العامة عن أذهان الأفراد المُخدَّرين أيديولوجياً، ويرون أن مصلحة الجماعة أو الحزب أو الحركة هي عينها المصلحة العامة، والفائدة المرتجاة للمجتمع.
وترتبط مسألة التخدير الأيديولوجي بأنماط التفكير السياسي والحركات السياسية ارتباطاً وثيقاً، فمن جهةٍ ترتكز عملية التخدير الأيديولوجي على إذكاء فكر سياسي معيَّن يعكس توجُّهات ضيّقة للجماعات السياسية المتطرفة، ومن جهة أخرى تعزز مسألةَ التطرف الفكري، كيف لا وهي التي تستند إلى رفض الآخر، وتغليب رأي على آخر قسريّاً لمجرد اعتقاده فقط، بل تصل خطورة المسألة إلى حد إقصاء الفكرة ومَن يمثلها.
ويخدم التخدير الأيديولوجي مسألة رفض الآخر، أو دعم فكرة الحنين إلى الماضي، ولا سيَّما الحنين إلى حقبة زمنية معينة تُسمَّى عادةً «الفترة الذهبية». ويستدعي هذا الحنين إلى الماضي ضرورة التفكير في مسألة الإحياء التي ترنو إلى بعث نموذج مشابِه لتلك الفترة الذهبية المتصورة، حتى يمكن لضحايا التخدير الأيديولوجي تقبُّل الحاضر، والإحساس بالأمان، والاطمئنان إلى أنهم يعيشون في عالم متَّسق مع معتقداتهم الأيديولوجية، ويعبّر عن رؤاهم الضيقة في الفكر والسياسة والمجتمع.